فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا}
الضمير عائد على المنافقين.
فقيل: هو حلف الجلاس، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس.
وقيل: حلف عبد الله بن أبي أنه ما قال: {لئن رجعنا إلى المدينة} الآية.
وقال الضحاك: حلفهم حين نقل حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وإياه في خلوتهم، وأما وهموا بما لم ينالوا فنزلت قيل: في ابن أبي في قوله: {ليخرجن}، قاله قنادة، وروي عن ابن عباس.
وقيل: بقتل الرسول، والذي همّ به رجل يقال له: الأسود من قريش، رواه مجاهد عن ابن عباس.
وقال مجاهد: نزلت في خمسة عشر هموا بقتله وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة يوقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم يا أعداء الله فهربوا، وكان منهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعيمة بن أبيرق، والجلاس بن سويد، وأبو عامر بن نعمان، وأبو الأحوص.
وقيل: همهم بما لم ينالوا، هو أن يتوجوا عبد الله بن أبي إذا رجعوا من غزوة تبوك يباهون به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم ينالوا ما هموا به، فنزلت.
وعن ابن عباس: كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أنْ طلع رجل أزرق فدعاه فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فأنزل الله هذه الآية.
وكلمة الكفر قول ابن أبي لما شاور الجهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الجهني، وقد كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع، فصاح الجهجاه: يا للأنصار، وصاح سنان: يا للمهاجرين، فثار الناس، وهدأهم الرسول فقال ابن أبي: ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أو الاستهزاء، أو قول الجلاس المتقدم، أو قولهم: نعقد التاج، أو قولهم: ليس بنبي، أو القول: لئن رجعنا إلى المدينة أقوال.
وكفروا: أي أظهروا الكفر بعد إسلامهم، أي إظهار إسلامهم.
ولم يأت التركيب بعد إيمانهم لأنّ ذلك لم يتجاوز ألسنتهم.
والهم دون العزم، وتقدم الخلاف في الهام والمهموم به.
وقيل: هو همّ المنافقين أو الجلاس بقتل ناقل حديث الجلاس إلى الرسول، وفي تعيين اسم الناقل خلاف، فقيل: عاصم بن عدي.
وقيل: حذيفة.
وقيل: ابن امرأة الجلاس عمير بن سعد.
وقيل: اسمه مصعب.
وقيل: هموا بالرسول والمؤمنين أشياء لم ينالوها {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} هذا مثل قوله: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا} {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا} وكان حق الغني من الله ورسوله أن يشكر لا أين ينقم، جعلوا الغنى سببًا ينتقم به، فهو كقوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وكان الرسول قد أعطى لعبد الله بن أبي دية كانت قد تغلظت له، قال عكرمة: اثنا عشر ألفًا.
وقيل: بل كانت للجلاس.
وكانت الأنصار حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل.
ولا يجوزون الغنيمة، فأثروا وقال الرسول للأنصار: {وكنتم عالة فأغناكم الله بي} وقيل: كان على الجلاس دين كثير فقضاه الرسول، وحصل له من الغنائم مال كثير.
وقوله: {وما نقموا} الجملة كلام أجري مجرى التهكم به، كما تقول: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئامًا.
وقال الشاعر:
ما نقموا من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا

وأنهم سادة الملوك ولا ** يصلح إلا عليهم العرب

وقال الآخر وهو نظير البيت السابق:
ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ** كرام وإنا لا نحط على النمل

{فإن يتوبوا} هذا إحسان منه تعالى ورفق ولطف بهم، حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة.
وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أن قال ما نقل عنه قد اعترف، وصدق الناقل عنه وتاب وحسنت توبته، ولم يرد أنّ أحدًا قبلت توبته منهم غير الجلاس.
قيل: وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المس الكفر المظهر للإيمان، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وقال مالك: لا تقبل فإن جاء تائبًا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته بلا خلاف، وإن يتولوا أي: عن التوبة، أو الإيمان، أو الإخلاص، أو الرسول.
والمعنى: وإنْ يديموا التولي إذ هم متولون في الدنيا بإلحاقهم بالحربيين إذ أظهروا الكفر، فيحل قتالهم وقتلهم، وسبي أولادهم وأزواجهم، وغنم أموالهم.
وقيل: ما يصيبهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب.
وقيل: عذاب القبر.
وقيل: التعب والخوف والهجنة عند المؤمنين، وفي الآخرة بالنار. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ}
استئنافٌ لبيان ما صدر عنهم من الجرائمِ الموجبةِ لما مر من الأمر بالجهاد والغِلظة عليهم ودخولِ جهنم. «روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوكَ شهرين ينزلِ عليه القرآنُ ويَعيب المنافقين المتخلّفين فيسمعه مَنْ كان منهم معه عليه الصلاة والسلام فقال الجُلاَّس بنُ سويد منهم: لئن كان ما يقول محمد حقًا لإخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتُنا وأشرافنا فنحن شرٌّ من الحمير»، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل والله إن محمدًا لصادقٌ وأنت شرٌّ من الحمار، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستُحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامرٌ يده فقال: اللهم أنزِل على عبدك ونبيِّك تصديقَ الصادق وتكذيبَ الكاذب فنزل. وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في يحلفون لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على تكرير الحلف، وصيغةُ الجمعِ في قالوا مع أن القائلَ هو الجلاس للإيذان بأن بقيتَهم برضاهم بقوله: صاروا بمنزلة القائل.
{وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} هي ما حُكي آنفًا والجملةُ مع ما عطف عليها اعتراضٌ {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} أي وأظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهارِهم الإسلامَ {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} هو الفتكُ برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وذلك أنه «توافقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يدفعوه عليه الصلاة والسلام عن راحلته إذا تسنّم العقبةَ بالليل وكان عمارُ بنُ ياسر آخذًا بخِطام راحلته يقودها وحذيفةُ بنُ اليمان خلفها يسوقُها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفافِ الإبل وبقعقعة السلاحِ فالتفت فإذا قومٌ متلثّمون فقال: إليكم إليكم يا أعداءَ الله فهربوا». وقيل: هم المنافقون همّوا بقتل عامر لرده على الجلاس، وقيل: أرادوا أن يتوِّجوا عبدَ اللَّه بنَ أبيِّ بنِ سَلول وإن لم يرضَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا نَقَمُواْ} أي وما أنكروا وما عابوا أو ما وجدوا ما يورث نَقِمتَهم {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ في غاية ما يكون من ضنْك العيشِ لا يركبون الخيلَ ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقُتل للجلاس مولى فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشَرَ ألفَ درهم فاستغنى، والاستثناء مفرَّغٌ من أعم المفاعيل أو من أعم العلل أي وما أنكروا شيئًا من الأشياء إلا إغناءَ الله تعالى إياهم أو وما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم {فَإِن يَتُوبُواْ} عما هم عليه من الكفر والنفاق {يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ} في الدارين.
قيل: لما تلاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال الجلاس: يا رسول الله لقد عرض الله عليّ التوبةَ والله لقد قلت وصدق عامرٌ فتاب الجلاسُ وحسُنت توبته {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن الدين أو أعرضوا عن التوبة بعد هذا العرض {يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا في الدنيا} بالقتل والأسرِ والنهب وغيرِ ذلك من فنون العقوبات {والآخرة} بالنار وغيرها من أفانين العقاب {وَمَا لَهُمْ في الأرض} مع سعتها وتباعُدِ أقطارِها وكثرة أهلِها المصحّحة لوجدان ما نُفيَ بقوله عز وجل: {مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَحْلفُونَ بالله مَا قَالُواْ} استئناف لبيان ما صدر منهم من الجرائم الموجبة لما مر.
أخرج ابن جرير وابن المندر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة خلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبد الله بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد صلى الله عليه وسلم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت.
وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين الجلاس بن سويد: والله لئن كان هذا الرجل صادقًا لنحن شر من الحمير فسمعهما عمير بن سعد فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرًا ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولاحداهما أشد علي من الأخرى فمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله تعالى ما قال ولقد كذب عليّ عمير فنزلت.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أنها لما نزلت أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن عمير قال: وفت اذنك يا غلام وصدقك ربك وكان يدعو حين حلف الجلاس اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب.
وأخرج عن عروة أن الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظل شجرة فقال: انه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله تعالى الآية، وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر وأما على الروايتين الأوليين فقيل: لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيق والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلًا لخلاف، وإيثار صيغة الاستقبال في {يَحْلِفُونَ} على سائر الروايات لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم، و{مَا قَالُواْ} جوابه {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} هي ما حكي من قولهم والله ما مثلنا إلخ أو والله لئن كان هذا الرجل صادقًا إلخ أو الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة والسلام، والجملة مع ما عطف عليها اعتراض {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} أظهروا ما فيقلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان ثابتًا قبل والإسلام الحقيق لا وجود له {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} من الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من غزوة تبوك.